صراع الهوية في التراث الشعبي الجنوبي
كتب / محمد ناصر العولقي
شاركت اليوم الخميس في الندوة العلمية حول الهوية الجنوبية في التراث الشعبي الجنوبي التي أقامتها منسقية المجلس الانتقالي الجنوبي بجامعة أبين في قاعة المنسقية بمدينة زنجبار بحضور الأخوين د. محمد حيدرة الجحيني القائم بأعمال رئيس المنسقية والدكتور محمد منصور بلعيد مدير إدارة الثقافة والإعلام في المنسقية ، وأنشر هنا النص المكتوب من مداخلتي التي قدمتها في الندوة بعنوان ( صراع الهوية في التراث الشعبي الجنوبي )؛
----------
اتجاهات أولية حول الهوية الحنوبية في التراث الشعبي الجنوبي
1ـ مفاهيم
ـ التراث
التراث (بالإنجليزية: Heritage) هو مجموعة من الموروثات التي تم نقلها من الجيل السابق -الآباء والأجداد- إلى الجيل الحالي، وتتعدد هذه الموروثات بين :
1ـ موروثات مادّية مثل الأدوات والمعدّات وطريقة صناعتها والمعمار واللبس والآثار والفنون الحسية
2ـ موروثات معنوية مثل الثقافة والأدب والفلكلور الشفوي والعادات والتقاليد المعمول بها والأعراف
ومن دون التراث فإنه لن يكون تواجد للحضارة التي تميّز الشعوب عن بعضها البعض وتعطي لها كيانََا وهوية خاصة تحفظ وارثيها من الضياع والتشرّد والتشرذم في حال التعرّض للتهديدات والضغوطات السياسية مثل الحروب التي تشرّد الأفراد والجماعات عن بعضهم البعض والاحتلال والغزو الفكري والثقافي .
- الهوية
تعتبر الهوية مصطلحًا فلسفيًا، يستدل به على كون الشيء هو نفسه، تتداخل الهوية مع مصطلحات عديدة مثل: الخصوصية، والتي يستدعى وجودها لمواجهة ومقاومة ما يمكن اعتباره تهديدًا للهوية بسبب الغزو الثقافي، وهناك من يرى أن الهوية مجرد مصطلح سياسي ولد ضمن عملية صراع سياسي.
كما تعرف الهوية ايضا، بأنها انتماءات الإنسان لتحديد ارتباطه وولائه لحضارته وثقافته وبالتالي لأمته وشعبه، ومن المصادر الأساسية للهوية هي القومية، والعرق والجنس والطبقة، ورغم أن الهوية تنسب إلى الأفراد إلا أنها ترتبط بالمجموعات الاجتماعية التي ينتسب لها الأفراد .
ومع أن الهوية ترتبط بالتاريخ المشترك والعرق والأصل والدين على المستوى القومي للأمم إلا أن هذا الرباط ليس قطعيا وفيصليا على مستوى الهويات الوطنية بفعل عوامل التمازج وتنوع مكونات النسيج الاجتماعي للمجتمعات الوطنية المحلية التي قد تتعدد فيها الأعراق والأصول والأديان ولذلك تصبح الهوية الوطنية من هذا الصعيد هوية سياسية واجتماعية وثقافية وحضارية جنبا الى جنب التاريخ والعرق والأصل والدين .
إن دورنا هو التنوير والتوعية وإبراز تراثنا الشعبي الجنوبي وسمات الهوية الجنوبية وإثبات أن كل ما هو على الارض الجنوبية هو جنوبي الهوية، تعود جذوره الى الآباء والأجداد ، وأن تزوير وسرقة وطمس الهوية الجنوبية والتراث الجنوبي لا يقل أهمية عن سرقة الأرض واحتلال الجنوب .
ومن خلال ذلك يمكن أن نوقف محاولات طمس وتشويه التراث والهوية الجنوبية ، ونخلق جيلا متمسكا بهويته وتراثه، قادرا على التصدي لكل ما يحاك لطمس هويته وتراثه .
2ـ تمظهرات الوعي بالهوية الجنوبية في التراث الشعبي الجنوبي
إن النموذج الذي يمكن لنا أن نلحظه بوضوح لتمظهرات الوعي بالهوية الجنوبية في تراثنا الشعبي الجنوبي هو ذلك السجال الكبير الذي خاضه الأمير الشاعر والملحن أحمد فضل القمندان في شعره الغنائي منتصف ثلاثينيات القرن الماضي رافضا غزو النمط الغتائي لهويات أخرى وعلى الأخص الهوية اليمنية والى جانبها الهندية والمصرية محاولا في ذلك تأكيد الهوية الخاصة للجنوب المختلفة عن تلك الهويات الزاحفة على المزاج والذوق الجنوبي ومسخ خصوصية المجتمع الجنوبي وإلحاقها بها ،
لقد كان القمندان واعيا بأن الجنوب له هويته الغنائية الخاصة التي يجب أن تكون لها السيادة فوق أرضها وبين أوساط مجتمعها المعبرة عنه ، وبالضرورة فإن ذلك الوعي المبكر في تاريخنا الحديث لم يكن ترفا ولا اعتباطيا بل هو انعكاس لصراع الهوية الجنوبية أمام الهويات التي كانت تحاول إزاحتها ، وتشكل خطرا عليها في الواقع وخصوصا الهوية اليمنية التي كانت يرفضها بشدة بوصفها هوية سياسية تسعى الى طمس الهوية الجنوبية وإلحاقها بها ، ونجد ذلك في أغنيته التي قال فيها :
سقاكِ يا عدنٌ من السحائب بلْ
غيثٌ من الشهد أو درٌّ من اللبن
سقى ربي اليمن الميمون عارضُ
يجري بالشآبيب من صنعاء إلى جُبَن
حيث نرى القمندان هنا يميز بين عدن ( الجنوب ) واليمن وهو يدعو الله بالسقاية لهما ككيانين وهويتين مختلفتين ، ويرسم الحدود بينهما بكل دقة حتى لا يساء فهم مقصديته ، وخصوصا عند ذكره لليمن حيث يحددها كهوية سياسية بوضوح تام ( من صنعاء الى جبن ) .
وفي أغنية أخرى يقول القمندان موجها خطابه للفنان اللحجي هادي سبيت النوبي أحد فناني لحج حينها :
غن يا هادي نشيد أهل الوطن
غن صوت الدان
ما علينا من غناء صنعاء اليمن
( غصن من عقيان )
* وغصن من عقيان هو اسم أغنية صنعانية
ويقول في أغنية أخرى مساجلا الهويتين اليمنية والهندية :
ولا تغنوا لي ( الجبل يا سارية )
و ( كيا خبر هيه ) و ( يا صاحب ميه )
( الهاشمي ) يا اهل القلوب السالية
* الجبل يا سارية هو اسم أغنية صنعانية وكيا خبر هيه ويا صاحب ميه هما أسما أغنيتين هنديتين اما الهاشمي فهو اسم أغنية من التراث اللحجي ويستعمله القمندان رمزا للأغنية اللحجية والجنوبية عموما
وفي أغنية أخرى يقول القمندان مخاطبا احد فناني لحج :
وغن لي «مرحباً بالهاشمي» فما
«يا شاري البرق»* إن غنيتَ يطربني
* يا شاري البرق هو اسم أغنية صنعانية
ويقول القمندان في أغنية أخرى :
هل أعجبك يوم في شعري غزير المعاني
وذقت ترتيل آياتي وشاقك بياني
وهل تأمّلت يا لحجي كتاب الأغاني*
ولا أنا قَطّ صنعاني ولا أصفهاني
* يقصد القمندان بكتاب الأغاني ديوانه الشعري الذي حمل عنوان ( الأغاني اللحجية الجديدة )
ويواصل القمندان سجاله مع الهويتين اليمنية والمصرية مؤكدا على الهوية الجنوبية الواحدة من لحج الى حضرموت والمهرة من خلال طقوس ليلة الحناء في حفل الزواج الجنوبي وأغنية واعلى امحنا وذكره الشحر :
رُدّ بالحِنّا صُبْح من بدري
ما نُبا صنعاني ولا مصري
يا مُنْاصِفْ يا تمر يا شحري
ذُوق مَنْ لا يدري ومن يدري
وحتى في بيان مرجعياته في الفقه والقضاء يوضح القمندان سمتهما الجنوبية بقوله :
عندكْ دِيَة لا فات قلبي في الهوى وانتَه أَثيم
أفتى (الفقيه أحمد)* ونفّذ حكمها قـاضي تريم
* الفقيه أحمد هو أحمد النخلاني مفتي الديار اللحجية حينها
إن صراع الهوية الجنوبية الذي خاضه القمندان كان صراعا وجوديا لسيادة هذه الهوية ، ونفي الهويات الآخرى التي كان يخشى زحفها وطمسها للهوية الجنوبية .
ولا غرو أن هذا يبين في المجمل أن صراع الهوية الجنوبية لم يكن صراعا حديثا طارئا بل يمتد الى عشرات السنين ، وكان التراث الشعبي الجنوبي مجالا من مجالات هذا الصراع ، وقد أوردت هنا نموذجا واحدا فقط توخيا للاختصار ، واحتراما لمحدودية الوقت المتاح لي في هذه الفعالية .
3ـ التوصيات
- استعمال تقنيات وأساليب مختلفة لنشر وتوثيق التراث الشعبي كالتحقيقات والاستطلاعات الصحفية والندوات والمجلات والكتب والاستعانة بالمختصين والخبراء والباحثين والدراسات التخصصية وغير ذلك من الاشكال والتقنيات لتوسيع مساحة وعي المجتمع والمتلقي الجنوبي بتراثه وهويته الجنوبية وتنمية عملية التراكم المعرفي والتوثيق المعلوماتي لمسائلهما .
_ ضرورة العمل على استخدام التكنولوجيا الاعلامية الحديثه في التوثيق والنشر ؛ وفضح ممارسات الاستهداف تجاه التراث الجنوبي والهوية الجنوبية ، وتخريب الاماكن الجنوبية التاريخية .
_ وضع منهاج جنوبي يدرس لطلاب المدارس والجامعات خاص بالتراث والهوية على أن يقوم باعداده أكاديميون متخصصون بالتراث والتاريخ الجنوبي .
_ نوص الهيئة الوطنية للإعلام الجنوبي وقناة عدن المستقلة والدائرة الثقافية والإعلامية بالإمانة العامة للانتقالي ومنسقيات الانتقالي في الجامعات وواتحاد أدباء الجنوب بوضع خطط خاصة لزيادة الوعي لدى المجتمع الجنوبي بأهمية التراث السياسي والحضاري والثقافي الجنوبي وذلك باعتباره رمزاً للهوية الوطنية يجب التمسك به من اجل تجسيد الهوية الجنوبية .
_ نوصي الجهات والمؤسسات الجنوبية لإقامة المهرجانات والمعارض حول التراث الشعبي الجنوبي داخل الوطن وخارجه، وذلك من أجل التعريف بالتراث الجنوبي ونشره .
- ضرورة استغلال الثورة الرقمية والتقنيات الحديثة في توثيق المواد التراثية والفنية والثقافية والسياسية ذات العلاقة بالهوية الجنوبية ، سواءً أكانت مروية أو مكتوبة أو مصورة، للاستفاده منها في تعزيز الهوية الجنوبية وفضح ممارسات الاحتلال اليمني قي سرقتها والإغارة عليها ومحاولات الطمس والتزوير للتراث والهوية الجنوبية .
_ تقديم الدعم والتشجيع لتنظيم حملات إعلامية ومجتمعية لتسجيل المواقع والمباني الثراثية ضمن التراث العالمي، وذلك من اجل حمايته من السرقة والهدم والتجريف.
_ نوصي المؤسسات الرسمية والشعبية بدعم الباحثين والمهتمين بالتراث؛ وتشجيعهم للقيام بدراسات وابحاث منهجية خاصة بالتراث والهوية الجنوبية ، ونشرها في وسائل الإعلام المحلية والخارجية والمجلات المتخصصة والكتب .
_ نوصي المؤسسات الجنوبية الرسمية والشعبية إبراز التراث ونشره وتسويقه ثقافياً، وذلك من خلال استخدام وسائل الاعلام المختلفه والحديثة وإقامة الفعاليات ، وتوزيعه محلياً وخارجياً من أجل التعريف به، وفضح محاولات سرقته وتزويره .
_ نوصي قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي تأسيس متاحف وطنية خاصة بالتراث الشعبي والتاريخ السياسي الجنوبي من أجل جمع وحفظ ودراسة وعرض وصيانة المواد التراثية ، ولمواجهة محاولات السرقة والتزوير والتلفيق والتشويه .
_ دعم إنتاج أفلام وبرامج تلفزيونية واذاعية من أجل نشر الوعي التراثي والتعريف به، سواءً من خلال التمثيليات والمسلسلات أو من خلال البرامج الوثائقية المتخصصة .
ـ نوصي قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي بتشكيل هيئة أو مؤسسة جنوبية تختص بالتراث الشعبي والهوية الجنوبية
ـ نوصي قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي بعقد مؤتمرات للتراث الشعبي في جميع محافظات الجنوب تمهيدا لعقد مؤتمر وطني جنوبي عام للتراث الشعبي والهوية الجنوبية .
ـ نوصي قيادة الانتقالي بإيلاء اهتمام خاص بالأرشيف الجنوبي في كافة المجالات بوصفه أحد ركائز الهوية الجنوبية ، وضرورة تشكيل مؤسسة أو لجنة أو هيئة خاصة للأرشيف الوطني الجنوبي