في القريات.. حيث الحقيقة تمشي بلا ضجيج

في القريات.. حيث الحقيقة تمشي بلا ضجيج

حدث اليوم - مقال ▪️ بقلم: حسين علي زيد المحرمي

في زيارة لم تكن معلنة، ودون أدنى تنسيق مع أحد، قررت أن أذهب بنفسي إلى القريات. لم يكن الهدف مغامرة صحفية، بل كان بحثاً عن حقيقة شعرت أنها غابت أو غُيبت في زحمة التقارير والمقالات والتصريحات المتناثرة حول المركز. أردت أن أرى الواقع لا ما يُنشر عنه، وأن أتحقق بنفسي من صورة تشكلت في أذهان كثيرين، وربما في ذهني أيضاً، عن مكان قيل فيه الكثير، ولم يُقَل عنه بما يكفي.

مسلحاً بإيماني بأن الصحافة تبدأ من الشك، وأن الزميل قد يخطئ لا تقصيراً بل لأن مصدره الرسمي نفسه قد يكون انتقائياً في تقديم الحقيقة، قررت أن أمضي إلى هناك... منفرداً، وبدون موعد.

حين يكون الواقع أصدق من الخيال

كنت أول إعلامي تطأ قدماه مركز القريات. كنت أحمل في داخلي قدراً من التوجس، تكرسه اتهامات سابقة تشير إلى توجهات "مشبوهة" للمركز. غير أن لحظة الوصول أسقطت تلك الهواجس من أول نظرة. فالمركز، ببساطة، لم يكن كما صُوّر. هو عبارة عن مسجد صغير، من دور أرضي لا تتجاوز مساحته 20 متراً مربعاً، ملحق به مصلى للنساء ومطبخ صغير تحيط به مساكن متواضعة، بعضها من الطين وبعضها الآخر من الإسمنت، لا تختلف كثيراً عن مساكن المزارعين في دلتا أبين (المعازيب)، بمساجدها الريفية المتواضعة التي تتوسط تجمعات سكنية بسيطة.

دخلت المسجد كما يدخل أي عابر سبيل حيّاً سكنياً. لم أُرَقَب، لم يُسأل عني، لم يُلتفت إلى لباسي أو لحيتي المحلوقة. لم أشعر للحظة أنني في مركز “متشدد” أو أنني مراقب كما يتوهم البعض. وجدت أطفالاً وشباباً يلعبون أمام المسجد في طابع حياة يومية طبيعية، تشبه أحياء زنجبار تماماً. لم يكن ثمة انغلاق على جماعة معينة أو فئة بعينها.

من هنا تبدأ الحقيقة

وأنا أجلس في المسجد، لمحته. كان أستاذنا "أحمد الهيثمي" أحد أبرز الشخصيات الدينية في زنجبار، والذي تربينا على خطبه منذ كنا صغاراً. علمٌ من أعلام الخير، رجل عُرف عنه التوازن والسماحة، ولم تُعرف له يوماً ميول حزبية أو ارتباطات مشبوهة. منذ أحداث 2011 وحتى عودة التنظيمات الإرهابية بعد 2016، ظل الهيثمي صوتاً ناصحاً للمجتمع، محذراً من الفتنة والتطرف، داعياً للتماسك الاجتماعي، منبهاً من العنصرية والمناطقية.

ما سمعته منه من دروس ومحاضرات وخطب، لم يكن يوماً دعوة إلى التشدد أو الغلو. كانت كلمات مسؤول يحمل همّ الشباب وأخلاق المجتمع، لا تخلو من التحذير من آفة المخدرات أو العادات المدمرة التي تهدد المجتمعات.

ولأكون منصفاً، فأنا لا أُحصِّن المركز ولا القائمين عليه من النقد أو المساءلة، لكنني أنقل شهادة أعرفها عن رجل عرفته المدينة منذ عقود، ولم تسجل عليه شبهة واحدة في فكره أو سلوكه.

لماذا اختيرت القريات؟

بحسب معلومات من ملاك أراضٍ محليين، لم تكن القريات الخيار الأول لإنشاء المركز. فقد سعى القائمون عليه بداية إلى شراء قطعة أرض قرب منطقة الشيخ عبدالله الساحلية، لكن المشروع لم يُكتب له النجاح، لتكون القريات في نهاية المطاف هي الخيار الثالث والأخير.

التمويل والدعم

ما شاهدته لا يشير إلى تمويل كبير أو دعم خارجي. المركز يعاني من ضعف شديد في الإمكانيات. حتى الوجبات المقدمة لطلاب العلم فيه بالكاد تكفي: ثلاثة أقراص روتي وبعض الفاصوليا، ما يعكس ضيق اليد لا وفرة الدعم.

قنوات الري... وإعادة التقييم

في ما يخص التعديلات على قنوات الري، فقد تبين لي وجود تدخل من مهندسين مختصين من مكتب الزراعة، وتم التوصل إلى اتفاقات موثقة مع المركز. بل إنني حصلت على تصريحات خاصة من مسؤول رفيع أبدى ارتياحه للوضع بعد التعديلات. لكن المفارقة أن هذا المسؤول ذاته قد صرح لوسائل الإعلام برواية مغايرة، وهو ما يفتح باباً مشروعاً للتساؤل: ما سبب التناقض؟ ومن المستفيد من تشويه الصورة؟

سؤال المواجهة... ورد الهيثمي

قبل مغادرتي، بادرت بالسلام على الأستاذ أحمد الهيثمي. فوجئ بوجودي، لكنه أبدى ترحيباً صادقاً. تحدثنا طويلاً، وطرحت عليه أسئلة معلقة في أذهان كثير من الصحفيين والإعلاميين: هل للمركز صلات بمحمد الإمام؟ هل هناك علاقات بعلي محسن الأحمر أو بالأحزاب اليمنية؟

أجاب بحزم ووضوح: "أهل السنة منهجهم بيّن، وعداؤهم للحوثيين لا يحتاج إلى برهان. أما محمد الإمام، فلا علاقة لنا به ولا بمركزه. وما يُقال عن علاقات بأحزاب يمنية أو علي محسن، فمحض افتراء. دمنا لم يختلط يوماً بدماهم، وتاريخهم معروف."

الكلمة الأخيرة.. للدعوة الصامتة

إن ما نعيشه اليوم من تدهور أخلاقي، وارتفاع في الجرائم، وانتشار للمخدرات، لا يترك لنا خيارات كثيرة. أمام هذا الانهيار المجتمعي، تبقى المساجد ومراكز تحفيظ القرآن هي الحصن الأخير.

وقد لا نحتاج إلى حملات ضخمة أو تمويلات بملايين الدولارات. كل ما نحتاجه هو دعم حقيقي لمن بقي يحمل شعلة الهداية، وتيسير مهمتهم في التوعية وبناء الإنسان. ففي المساجد ما لا توفره لنا الوزارات، وفي المنابر ما يغيب عن مدارسنا.

في القريات... لم أجد شبهة، بل وجدت يقيناً بأن المجتم

ع لا يزال بخير، ما دامت فينا بقية من إنصاف.