الجنوب وفكر التحول من الهتاف إلى صناعة النفوذ

الجنوب وفكر التحول من الهتاف إلى صناعة النفوذ

حدث اليوم - كتب - كمال صلاح الديني 

لم تعد معركة النفوذ في عالم اليوم تُحسم بالجيوش ولا تُدار بخطابات الأيديولوجيا التي استُهلكت في القرن الماضي فقد انزلق ميزان القوة إلى فضاءات جديدة تصنعها الشركات العابرة للقارات ورؤوس الأموال المتحركة والتقنيات التي بات تأثيرها يتجاوز تأثير الحكومات نفسها وفي عالمٍ تتسارع فيه التحولات وتذوب الحدود تراجعت قدرة الدولة القومية على الإمساك بمركز السلطة كما اعتادت، بعدما أعادت العولمة توزيع النفوذ لصالح مؤسسات غير مرئية شركات بحجم دول، وشبكات مالية وإعلامية تعمل خارج منطق السياسة التقليدية، وتقنيات لا تعترف بالجغرافيا ...

هذه القوى التي تناولها عالم الإجتماع الألماني أولريش بيك في كتابه «مجتمع المخاطر العالمي» واصفاً إياها بـ«السلطة الخفية» سلطة لا تحتاج إلى إحتلال لتُخضع الدول بل تمتلك من أدوات السوق ما يكفي لتقييد القرار السياسي دون إطلاق رصاصة واحدة، وفي قلب هذا المشهد يجد الجنوب نفسه أمام خارطة نفوذ تُعاد صياغتها وفق مقاييس المصالح الكبرى، بينما تتراجع الشعارات القديمة أمام زمن تُدار فيه السيادة عبر الاقتصاد قبل السياسة ...

وعلى هذا المسرح الدولي تتشكل خرائط نفوذ جديدة ومتشابكة

فطريق الحرير الصيني يمتد لإعادة ترتيب التوازنات الاقتصادية والسياسية عالمياً، وإسرائيل تدفع بمشاريع استراتيجية مثل «قناة بن غوريون» كممر ينافس قناة السويس وتطرح مفهوم «الدين الإبراهيمي» كإطار مصالح اقتصادية يعيد تأويل الجغرافيا والهويات ، وفي أفريقيا يتحول إقليم دارفور في السودان إلى ساحة صراع دولي على الموارد، بينما حاولت إدارة ترامب تحويل غزة إلى نموذج لـ«السلام الإقتصادي» حيث يُستبدل المنطق السياسي بالمال والهوية الوطنية بالمردود الإقتصادي ..

إذ تتبدّل اليوم خرائط التحالف والخصومة حيث لم تعد القوى الكبرى أسيرة ثنائيات «العدو والصديق» فالقيادة السورية الجديدة والتي كانت يوماً على رأس قوائم الإرهاب لدى الإدارة الأمريكية يُعاد النظر فيها وفق المصالح الإقليمية، وفي الوقت ذاته تؤكد شركات التكنولوجيا أن القوة لم تعد حكراً على الدول فوجود «ستارلينك» في اليمن المنهار يثبت أن لاعبين جدد يملكون أدوات العصر ويعيدون رسم موازين التأثير عالمياً....

أما إقليمياً تعمل القوى الكبرى والمؤثرة على ترسيخ مواقعها في هذا المشهد الجديد 

فالسعودية تبني (نيوم) لا بوصفها مدينة مستقبلية فحسب بل مشروعاً استراتيجياً يعيد توزيع ثقلها في المنطقة ويربطها بشبكات التجارة والطاقة والموانئ بعيداً عن الإعتماد الأحادي على النفط ، ومصر من جانبها تستثمر قوتها الناعمة وتراثها الحضاري العريق والفنون والثقافة لجذب الاستثمارات عبر فعاليات اقتصادية وثقافية رغم تحدياتها الداخلية ..

ومع اتساع هذه التحولات تسقط الشعارات التي ازدهرت في الستينيات والسبعينيات خلال حقبة المعسكرين الشرقي والغربي ، فذلك الزمن الذي كانت فيه الخطابة القومية أداة للحشد لم يعد قادراً على التعامل مع واقع تُدار فيه الدول بمنطق البيانات الضخمة وسلاسل التوريد وأسواق الطاقة وحتى مفهوم «الثورجية» المرتبط بالاندفاع السياسي أكثر من الوعي الاستراتيجي، فقد فاعليته في مشهد تحكمه الدقة والبراغماتية لا الهتاف ولا الرومانسية الثورية ...

إن الجنوب يقف اليوم أمام استحقاق فكري وسياسي معقّد يفرض عليه قراءة لحظته في عالم لا يعترف إلا بالتموضع الجيوسياسي وإدارة الموارد وفهم مسارات القوى الكبرى فمرحلة اليوم ليست صخباً بل فهماً عميقاً لما يجري خلف ستار الاقتصاد وكيف يُعاد توزيع النفوذ وصياغة قواعد اللعبة الدولية وفي هذا السياق يواجه الجنوب معادلة تجمع بين فرص اقتصادية واستراتيجية كبيرة وأطماع دولية تتعامل معه كبوابة لأجنداتها، ما يستدعي استراتيجية تقوم على إدراك منطق العولمة وإدارة الموانئ ودبلوماسية الطاقة وحركة رأس المال، لأن السيادة الحديثة تصنعها القدرة على التأثير لا الشعارات ومن هنا يصبح الانتقال من «ساحة نفوذ» إلى «صناعة النفوذ» رهناً برؤية سياسية تستثمر الموقع الجنوبي بوعي واقتدار ...

فالعالم يُعاد تشكيله اليوم بلا جيوش تقليدية ولا حدود واضحةومن لا يستوعب موجة التحوّل سيظل على هامش اللعبة مكبّلاً بإرثٍ لم يعد صالحاً لقيادة اللحظة فيما تُعاد صياغة مواقع النفوذ وتُفتح للجنوب فرص لا يلتقطها إلا من يمتلك بصيرة اللحظة وجرأة القرار ....