تريم: دولة الحضارم العميقة: بين الإرث الروحي والعلمي… وصوت الشعب الرافض للفساد بقلم الدكتور / أحمد باصهي
في قلب وادي حضرموت، تتربع مدينة تريم على ضفاف التاريخ الممتد لألآف السنين فهي ليست مجرد مدينة، بل كيان حضاري عميق الجذور، يمتد تأثيره من المنابر العلمية إلى ميادين الحراك الشعبي، حاملاً رسالة سلمية لا تخطئها العين.
مدينة تتجاوز حدود الجغرافيا
منذ فجر التاريخ الإسلامي في الجزيرة العربية برزت تريم كأحد أعمدة الهوية الحضرمية. فهي ليست فقط حاضرة تاريخية، بل مركز روحي وفكري أفرز عبر القرون علماء ودعاة وتجارًا حملوا اسم حضرموت ورسالتها إلى أبعد بقاع الأرض.
من مساجدها ومدارسها خرجت بعثات علمية وروحية وصلت إلى جزر إندونيسيا، وسواحل شرق إفريقيا، والهند، فأسست مجتمعات حضرمية ما زالت تحافظ على ارتباطها الروحي والثقافي بالمدينة الأم حتى اليوم.
مدينة شامخة بلا قلاع ولا أسوار
القوة الحقيقية لتريم لا تقاس بالمساحة أو السكان أو النفوذ العسكري، بل بقدرتها على صياغة الموقف الحضرمي عبر سلطة رمزية متجذرة في القيم. هذه السلطة تجعلها مرجعًا أخلاقيًا وثقافيًا للحضارم في الداخل والخارج، بحيث تبقى مؤثرة حتى حين تكون بعيدة عن دوائر القرار السياسي المباشر.
بنية اجتماعية متماسكة
المجتمع التريمي يتسم ببنية اجتماعية فريدة، قائمة على تمازج الأسر العلمية، وروابط المصاهرة، والشبكات التجارية، مع التقاليد الدينية العريقة. هذه التركيبة تخلق نسيجًا اجتماعيًا عميقًا يتيح للمدينة الصمود أمام التحولات السياسية والاقتصادية، ويجعلها قادرة على التأثير المستمر عبر أجيال متعاقبة.
تريم والحراك الشعبي ضد الفساد
على الرغم من طابعها الروحي المحافظ، فإن تريم لم تبقَ بمعزل عن قضايا الحاضر حيث تشهد المدينة تحركات سلمية منظمة، رفع فيها الأهالي مطالبهم بوقف الفساد، وتحسين الخدمات، ومحاسبة المقصرين.
ما يميز هذه التحركات هو التزامها بروح تريم التاريخية: السلمية، والحكمة، والابتعاد عن الفوضى، مما يتطلب من السلطات أن تصغي لصوتها باحترام وتقدم حلولا عملية واضحة بدلا من اللجؤ الى القوة ومواجهة الشعب الذي خرج في مسيرات سلمية تعكس وعيًا متجذرًا بأن القيم التي بُنيت عليها المدينة ليست مجرد إرث ثقافي، بل أدوات عملية للدفاع عن الحقوق والنهوض بالبلاد .
تريم في معادلة حضرموت
في خضم التنافس على مستقبل حضرموت، تظل تريم اللاعب الهادئ الذي يملك مفاتيح التأثير من خلف الستار. قوتها الناعمة تمكنها من توحيد الصفوف عند الحاجة، وإعادة صياغة المشهد الحضـرمي بما يحافظ على هويته، ويوازن بين مطالب الحاضر واحترام الجذور.
كلمة أخيرة
تريم اليوم تثبت أن الحضارة ليست تاريخًا يروى، بل قوة حية تتحرك حين يستدعي الأمر. وكما حملت رسالتها الروحية إلى العالم قديمًا، فإنها تحمل اليوم رسالة الصدع بالحق والمطالبة بالعدالة، مؤكدة أن دولة الحضارم العميقة ستظل عصية على الانكسار، وأن صوتها سيبقى شاهدًا على أن القيم أقوى من الفساد، وأن الوعي الشعبي هو الحصن الأخير للكرامة والهوية.









