طفل غزة يتسائل من مات أولاً أُمه أم أمته العربية

طفل غزة يتسائل من مات أولاً أُمه أم أمته العربية

حدث اليوم - مقال | احمد السيد عيدروس

طفل غزة يقف بجوار جثة أمه ليخبرها أنه نجا من القصف لكنَّ أمه لا ترد فأمه لم تستطع النجاة فقد أصابتها شظية من قذيفة صاروخية 

طفل غزة كان يريد أن تُسر وتبتهج به أمه لنجاته و تحتضنه 

لكن حين بدأ يخبرها أنه بخير تفاجأ كيف لها أن لا تحتضنه وهيا التي تحبه فتسمر في مكانه ينتظر إبتسامتها المعهودة لكنها لم تبتسم لقد شعر أنها ربما تكون غاضبة منه ٠٠٠٠

لازال طفل غزة صغير ليتعامل مع جسد تسربت منه الروح إلى السماء فهو يراقب وجه أمه منتظراً تلك الإبتسامة التي تُترجم في عقلية الطفل على ما لديه من مخزون مواقف سابقة في الذاكرة فالإبتسامة للأم الفلسطينية تترجم عند طفلها إلى ٠٠ لقد نجونا من القصف يا ولدي و نحن بخير ٠٠

في غزة هذه أحلامهم في السنوات الأخيرة النجاة من القصف الأول وأنتظار القصف التالي ٠٠ 

طفل غزة ظل ينظر إلى أمه لكن لا حركة فجسد الأم متصلب وبارد حتى الدماء على الجراح توقفت عن النزيف وأصبح لون الدماء على الجروح مائل للزرقة 

لازال طفل غزة مُصِر على إخبار أمه بنجاته لقد وقف من الصباح حتى المساء عند رأسها  

وكان يردد أمي هيا إنهضي أريد العودة لمنزلنا أمي إذا كان منزلنا دمرته الطائرات سنجد بين الركام مكاناً ننام فيه فأنا متعب ٠ 

من يخبر طفل غزة أن الشظية التي قتلت أمه تلك الليلة قد ذبحت السعادة في حياته للأبد ٠

فتلك الليلة ليست من ليالي الأرض الزمنية بل جاءت هاربة من الزمن في الجحيم 

 

تلك الليلة البآئسة هل نستطيع محوها من الوجود هل نستطيع طمرها بالنسيان من مجلد التاريخ هل نستطيع أن نقفز بعقرب الساعة لليلة كاملة حتى لا تمر تلك الليلة على غزة 

فتلك الليلة التي قصفت فيها الطائرات منزل طفل غزة كانت لليلة خرجت من وسط الجحيم تحمل حقداً دفيناً على غزة  

لقد رأيت الشمس تسير نحو الغروب ببطئ كانت الشمس تريد إخبارنا بأن شيء قادم بأن علينا النظر مطولاً إلى وجوه أحبائنا التي ستغيب عنَّا ولن نراها مرة أخرى علينا توديع بعضنا بعضاً علينا أن نودع السعادة فهذه آخر ليلة لها على أرض غزة و قلب طفل غزة ٠

ليلة الجحيم كانت في بدايتها ليلة عادية وكانت الأم الفلسطينية قد بدأت تُحضِّر العشاء و تنادي طفل غزة كُف عن اللعب في الفناء فقد حان موعد أخذك للدواء ويرد طفل غزة إنتظري يا أمي قليلاً 

لقد أحس ذالك الطفل أن هذا الفناء لهذا المنزل سيتحول مع الفجر إلى ساحة حرب و ستُلقى عليه أطنان من الذخائر لتحوله إلى جحيم ٠

دخل طفل غزة المنزل وأخذ دواءه وتناول طعامه وطلب من أمه قصة كي ينام وبدأت امه تقص له قصة ما قبل النوم وقالت خلف تلك الحدود هناك على أمتداد الأفق توجد أمة عربية ننتمي إليها ستأتي يوماً وتفك عنَّا الحصار قال طفل غزة وماذا تعني أمة عربية قالت الأم فرسان أعدادهم تفوق النجوم لو ألقى كل فارس منهم بحجر نحو العدو المحتل لتم ردم مستوطنات الإحتلال وتم تسويتها بالرمال 

و تدير الام وجهها نحو طفلها فتجده نائم لعله شعر بالأمان بأن خلفه أمةً عربية لديها فرسان بأعداد النجوم 

وتعود الأم الغزاوية لخياطة قميص طفلها لكنها تصيب أصبعها بجرح وتنظر إلى الدم وتقول يا رب أستودعك طفلي 

ففي تلك الساعة بدأت أصوات الطائرات الحربية تملأ السماء وبدأ القصف وبدأت أطنان من الحقد تنزل على المدينة  

لقد كان صوت القذائف يقتل الحُلم بالعيش حتى صباح اليوم التالي ٠

كان حقاً جحيماً يتدفق من السماء ٠

فتلك القذائف تدك أبنيةً من عشرة طوابق فتسويها بالتراب حتى الجثث تبخرت لم ينجو أحد 

أحياء بكاملها يقال عنها كان هنا حي يسكنه المئات لكن لن تجد من يخبرك ماذا حدث أين ذهبوا لم ينجوا أحد كانت محرقة ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ 

في صباح اليوم التالي لم ترى الشمس تلك الوجوه التي أشرقت عليها بالأمس٠

 

حتى الشمس كانت تبحث عن ناجين ٠

لقد توقفت الشمس في سماء غزة خجلاً ٠

فكيف للشمس أن تغيب وهناك من يتوسل إليها بالبقاء فعائلته مفقودة بكاملها 

وهو يبحث عنهم بين الأنقاض قبل حلول الظلام وتجدد القصف 

 

فالظلام كان قاتلاً سفاحاً يصب الجحيم بيد وباليد الأخرى يحمل سوط الصقيع الفتاك الذي لا يرحم طفلاً ولا مسن عالق بين الركام

كانت الشمس ترسل أشعتها كالحبال تتدلى نحو الجرحى تحت الركام ٠

كانت أشعت الشمس تحث تلك البقايا للروح في الأجساد المنهكة على المغادرة ٠

من عاش تلك الليلة سمع ذالك الصوت في داخله ذالك الصوت النابع من أعماق النفس البشرية 

يقول تمسكوا بالضواء إزحفوا بأرواحكم نحو السماء 

وفي السماء لا تذرفوا الدموع على تلك الأجساد التي لا تزال على أرض الجحيم ٠

لقد غادرت كل الأرواح غزة٠

تلك الأجساد التي لاتزال تسير في طرقات غزة لا تحمل أرواحها السابقة بل أرواحاً خُلقت في الجحيم لا تعرف السعادة والأمل فهذه الأرواح الجديدة هي الوحيدة القادرة على العيش في الجحيم٠

طفل غزة ولد من جديد بروح أُخرى لا تتألم ولا تشعر بالحزن ولا تحلم بشيء 

 هل ترون ذالك الوقوف الصلب لطفل غزة فلم ينهار و لم يذرف الدموع وهو يرى أمه جسداً بارداً لا روح فيه لم يفكر حتى أن يحتضنها 

ماهذه الروح القوية ماهذا الكبرياء الذي يرفض إظهار الضعف البشري ما هذا الشموخ لطفل غزة كيف لطفل لم يتجاوز السادسة أن يقف دون أن تهتز فيه شعرة في موقف أبكى ملايين البشر الذين شاهدوه يقف بجوار جثة أمه 

نظرات طفل غزة تخبرنا شيءً واحداً

 

وهو أنه قد مات الخوف في تلك الليلة وماتت الروح البشرية وبُعِثت في الأجساد أرواحاً لا تحمل الضعف والخوف بل حتى لا تعرفه ٠٠٠٠٠٠٠٠